فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: الحقُّ هو الموت سُمِّي حقًّا إما لاستحقاقه وإما لانتقاله إلى دار الحق؛ فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك في قراءة أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما؛ لأن السكرة هي الحق فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين.
وقيل: يجوز أن يكون الحق على هذه القراءة هو الله تعالى؛ أي جاءت سكرة أمر الله تعالى بالموت.
وقيل: الحق هو الموت والمعنى وجاءت سكرة الموت بالموت؛ ذكره المهدوي.
وقد زعم من طعن على القرآن فقال: أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ: وجاءت {سكرة الحق بالموت}.
فاحتج عليه بأن أبا بكر رويت عنه روايتان: إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل، والأخرى مرفوضة تجري مجرى النسيان منه إن كان قالها، أو الغلط من بعض من نَقَلَ الحديث.
قال أبو بكر الأنباري: حدّثنا إسماعيل بن إسحق القاضي حدّثنا علي بن عبد الله حدّثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن مسروق قال: لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عائشة فلما دخلت عليه قالت: هذا كما قال الشاعر:
إذا حَشْرَجَتْ يومًا وضاقَ بها الصَّدْرُ

فقال أبو بكر: هلاَّ قلتِ كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} وذكر الحديث.
والسَّكْرَةُ واحدة السَّكَرات.
وفي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه رِكْوة أو عُلْبَة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» ثم نصب يده فجعل يقول: «في الرفيق الأعلى» حتى قبض ومالت يده. خرجه البخاري.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد الصالح ليعالج الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة» وقال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهوّن عليكم هذه السَّكْرة.
يعني سَكَرات الموت.
وروي: «إن الموت أشدّ من ضربٍ بالسيوف ونشرٍ بالمناشير وقرضٍ بالمقاريض».
{ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي يقال لمن جاءته سكرة الموت ذلك ما كنت تفرّ منه وتميل عنه.
يقال: حادَ عن الشيء يَحِيدُ حُيودًا وحَيْدَة وحَيْدُودة مال عنه وعدل.
وأصله حَيَدودة بتحريك الياء فسكنت؛ لأنه ليس في الكلام فَعْلُول غير صَعْفُوق.
وتقول في الأخبار عن نفسك: حِدْتُ عن الشيء أَحِيد حَيْدًا ومَحِيدًا إذا ملت عنه؛ قال طَرَفَة:
أبا منذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ فَهِبتَهُ ** وحِدْتَ كما حاد البعيرُ عن الدَّحْضِ

قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور} هي النفخة الآخرة للبعث {ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد} الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه.
وقد مضى الكلام في النفخ في الصور مستوفًى والحمد لله.
قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} اختلف في السائق والشهيد؛ فقال ابن عباس: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل؛ رواه العوفي عن ابن عباس.
وقال أبو هريرة: السائق الملَك والشهيد العمل.
وقال الحسن وقتادة: المعنى سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها بعملها.
وقال ابن مسلم؛ السائق قرينها من الشياطين سمي سائقًا لأنه يتبعها وإن لم يحثّها.
وقال مجاهد: السائق والشهيد ملَكان.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} سائق: مَلَك يسوقها إلى أمر الله، وشهيد: يشهد عليها بعملها.
قلت: هذا أصح فإن في حديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل له إن الله لا إله غيره إذا أراد خَلْقه قال للملَك اكتب رزقه وأثره وأجله واكتبه شقيًّا أو سعيدًا ثم يرتفع ذلك المَلَك ويبعث الله ملكًا آخر فيحفظه حتى يدرك ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناتِه وسيئاتِه فإذا جاءَه الموت ارتفع ذلك الملَكان ثم جاء ملَك الموت عليه السلام فيقبض روحه فإذا أُدْخِلَ حفرته ردّ الروح في جسده ثم يرتفع ملَك الموت ثم جاءه ملَكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان فإذا قامت الساعة انحط عليه ملَك الحسنات وملَك السيئات فأنشطا كتابًا معقودًا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق والآخر شهيد ثم قال الله تعالى: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ}» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قال: حالًا بعد حال» ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن قُدَّامكم أمرًا عظيمًا فاستعينوا بالله العظيم» خرجه أبو نعيم الحافظ من حديث جعفر بن محمد بن علي عن جابر وقال فيه: هذا حديث غريب من حديث جعفر، وحديث جابر تفرّد به عنه جابر الجُعْفِيّ وعنه المفضّل.
ثم في الآية قولان: أحدهما أنها عامة في المسلم والكافر وهو قول الجمهور.
الثاني أنها خاصة في الكافر؛ قاله الضحاك.
قوله تعالى: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ} قال ابن زيد: المراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم.
وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم.
وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر.
وهو اختيار الطبري.
وقيل: أي لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد؛ لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية.
{فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ} أي عَمَاك؛ وفيه أربعة أوجه: أحدها إذ كان في بطن أمه فولد؛ قاله السدّي.
الثاني إذا كان في القبر فنشر.
وهذا معنى قول ابن عباس.
الثالث: وقت العَرْض في القيامة؛ قاله مجاهد.
الرابع أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة.
وهذا معنى قول ابن زيد.
{فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} قيل: يراد به بصر القلب كما يقال هو بصير بالفقه؛ فبصر القلب وبصيرته تبصرته شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار، كما تبصر العين ما قابلها من الأشخاص والأجسام.
وقيل: المراد به بصر العين وهو الظاهر أي بصر عينك اليوم حديد؛ أي قويّ نافذ يرى ما كان محجوبًا عنك.
قال مجاهد: {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن سيئاتك وحسناتك.
وقاله الضحاك.
وقيل: يعاين ما يصير إليه من ثواب وعقاب.
وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل: يعني أن الكافر يحشر وبصره حديد ثم يزرقّ ويَعْمَى.
وقرىء {لَقَدْ كُنْتِ} {عَنْكِ} {فَبَصَرُكِ} بالكسر على خطاب النفس. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان}.
الإنسان: اسم جنس، و{تُوَسْوِسُ} معناه: تتحدث في فكرتها، والوسوسةُ إنَّما تُسْتَعْمَلُ في غير الخير.
وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد}: عبارة عن قُدْرَةِ اللَّه على العبد، وكونُ العبد في قبضة القدرة والعلم قد أُحِيط به، فالقرب هو بالقدرة والسُّلطان، إذ لا يَنْحَجِبُ عن علم اللَّه لا باطنٌ ولا ظاهر، والوريد: عرق كبير في العُنُقِ، ويقال: إنَّهما وريدان عن يمين وشمال.
وأَمَّا قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} فقال المفسرون: العامل في إذ {أَقْرَبُ} ويحتمل عندي أَنْ يكون العاملُ فيه فعلًا مُضْمَرًا تقديره: اذكر إذ يتلقى المتلقيان، و{المتلقيان}: المَلَكَانِ المُوَكَّلان بكل إنسان، مَلَكُ اليمين الذي يكتب الحسناتِ، وملك الشمال الذي يكتب السيِّئات؛ قال الحسن: الحَفَظَةُ أربعة: اثنان بالنهار، واثنان بالليل، قال ع: ويؤيد ذلك الحديث الصحيح: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ» الحديث بكماله، ويُرْوَى أَنَّ مَلَك اليمين أمير على ملك الشمال، وأَنَّ العبد إذا أَذنب يقول ملك اليمين للآخر: تَثَبَّتْ؛ لَعَلَّهُ يتوبُ؛ رواه إبراهيم التيمي، وسفيان الثوري، و{قَعِيدٌ}: معناه قاعد.
وقوله سبحانه: {مَّا يَلْفِظُ مِن قول} الآية، قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: يكتب الملكانِ جميعَ الكلام، فيثبت اللَّه من ذلك الحسناتِ والسيئات، ويمحو غيرَ هذا، وهذا هو ظاهر هذه الآية، قال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كُلَّ شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عِكْرَمَةُ: يكتبان الخير والشَّرَّ فقط؛ قال ع: والأوَّلُ أصوب.
ت: وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «كُلُّ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، إذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، فَأَحَبَّ أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّه، فَلْيَأْتِ، فَلْيَمُدَّ يَدَيْهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَقول: اللَّهُمَّ، إنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ مِنْهَا، لاَ أَرْجِعُ إلَيْهَا أَبَدًا، فَإنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ في عَمَلِهِ ذَلِكَ» رواه الحاكم في (المستدرك)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلمًا، انتهى من (السِّلاح)، قال النَّوَوِيُّ رحمه اللَّه تعالى: ينبغي لكل مُكَلَّفٍ أَنْ يحفظ لسانه من جميع الكلام إلاَّ كلامًا تظهر فيه مصلحته، ومتى استوى الكلامُ وتركه بالمصلحة فالسُّنَّةُ الإمساكُ؛ فإنَّهُ قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وهذا هو الغالب، والسلامة لا يعدلها شيءٌ، وقد صَحَّ عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاريُّ ومسلم أَنَّه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ» وهو نَصٌّ صريح فيما قلناه، قال: ورُوِّينَا في (كتاب الترمذيِّ) و(ابن ماجه) عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «مِنْ حُسْنِ إسْلاَم المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» قال الترمذيُّ: حديث حسن، وفيه عن عُقْبَةَ بن عامر قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابك على خَطِيئَتِكَ» قال الترمذيُّ: حديث حسن، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ» قال الترمذيُّ: حديث حسن، انتهى، والرقيب: المُرَاقِبُ، والعتيد: الحاضر.
وقوله: {وَجَاءَتْ} عطف، عندي، على قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى} فالتقدير: وإذ تجيء سكرة الموت.
ت: قال شيخُنَا، زينُ الدين العراقيُّ في أرجوزته: الرجز:
وَسَكْرَةُ المَوْتِ اختلاط الْعَقْلِ

البيت. انتهى.
وقوله: {بالحق} معناه: بلقاء اللَّهِ، وَفَقْدُ الحياة الدنيا، وفراقُ الحياة حَقٌّ يعرفه الإنسانُ، ويحيد منه بأمله، ومعنى هذا الحيد أَنَّه يقول: أعيش كذا وكذا، فمتى فكر حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمان، وهذا شأن الإنسان، حَتَّى يفاجئه الأجل؛ قال عَبْدُ الحَقِّ في (العاقبة): وَلَمَّا احْتَضَرَ مالك بن أنس، ونزل به الموتُ قال لمن حضره: لَيُعَاينَنَّ الناسُ غدًا من عفو اللَّه وَسَعَةِ رحمته ما لم يخطر على قلب بشر، كُشِفَ له رضي اللَّه عنه عن سعة رحمة اللَّه وكثرة عفوه وعظيم تجاوُزِهِ ما أوجب أَنْ قال هذا، وقال أبو سليمان الدارانيُّ: دخلنا على عابد نزوره، وقد حضره الموتُ، وهو يبكي، فقلنا له: ما يبكيك رحمك اللَّه؟! فأنشأ يقول: الطويل:
وَحُقَّ لِمِثْلِي البُكَا عِنْدَ مَوْتِه ** وَمَالِيَ لاَ أَبْكِي وَمَوْتِي قَدِ اقترب

وَلِي عَمَلٌ في اللَّوْحِ أَحْصَاهُ خَالِقِي ** فَإنْ لَمْ يَجُدْ بِالْعَفْوِ صِرْتُ إلَى الْعَطَبْ

انتهى، و{يَوْمَ الوعيد}: هو يوم القيامة، والسائِقُ: الحاثُّ على السير، واختلف الناسُ في السائق والشهيد، فقال عثمان بن عفان وغيره: هما مَلَكَانِ مُوَكَّلاَنِ بكل إنسان أحدهما يسوقه، والآخر مِنْ حَفَظَتِهِ يشهد عليه، وقال أبو هريرة: السائق: مَلَكٌ، والشهيد: العمل، وقيل: الشهيد: الجوارح، وقال بعض النظار: سائق اسم جنس وشهيد كذلك، فالسَّاقَةُ للناس ملائكة مُوَكَّلُون بذلك، والشهداء: الحَفَظَةُ في الدنيا، وكل مَنْ يشهد.
وقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ} يعمُّ الصالحين وغيرهم؛ فإنَّما معنى الآية شهيد بخيره وشَرِّهِ، ويقوى في شهيد اسم الجنس، فتشهد الملائكة، والبِقَاعُ والجوارحُ؛ وفي الصحيح: «لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ إنْسٌ، وَلاَ جِنٌّ، وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وقوله سبحانه: {لَّقَدْ كُنتَ} قال ابن عباس وغيره: أَي: يقال للكافر: لقد كنتَ في غفلة من هذا، فلمَّا كُشِفَ الغطاءُ عنك الآنَ احْتَدَّ بصرُك، أي: بصيرتك؛ وهذا كما تقول: فلان حديد الذِّهْنِ ونحوه، وقال مجاهد: هو بصر العين، أي: احْتَدَّ التفاته إلى ميزانه، وغيرِ ذلك من أهوال القيامة.
والوجه عندي، في هذه الآية، ما قاله الحسن وسالم بن عبد اللَّه: إنَّها مُخَاطَبَةٌ للإِنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر، وهكذا، قال الفخر: قال: والأقوى أنْ يقال: هو خطاب عامٌّ مع السامع، كأنَّهُ يقول: ذلك ما كنتَ منه تحيد أيُّها السامع، انتهى، وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ نِيَامٌ، فَإذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا». اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي، وضمير {بِهِ} لما وهى موصولة والباء صلة {تُوَسْوِسُ} وجوز أن تكون للملابسة أو زائدة وليس بذاك، ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية والضمير للإنسان والباء للتعدية على معنى أن النفس تجعل الإنسان قائمًا به الوسوسة فالمحدث هو الإنسان لأن الوسوسة بمنزلة الحديث فيكون نظير حدث نفسه بكذا وهم يقولون ذلك كما يقولون حدثته نفسه بكذا قال لبيد:
واكذب النفس إذا حدثتها ** إن صدق النفس يزري بالأمل

{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل؛ ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذوي الأحوال، و{حَبْلِ الوريد} مثل في فرط القرب كقولهم: مقعد القابلة ومعقد الأزار قال ذو الرمة على ما في (الكشاف):
والموت أدنى لي من حبل الوريد

والحبل معروف والمراد به هنا العرق لشبهه به وإضافته إلى الوريد وهو عرق مخصوص كما ستعرفه للبيان كشجر الإراك أو لامية كما في غيره من إضافة العام إلى الخاص فإن أبقى الحبل على حقيقته فإضافته كما في لجين الماء، و{الوريد} عرق كبير في العنق وعن الأثرم أنه نهر الجسد ويقال له في العنق الوريد وفي القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخر الأكحل والنساء وفي الخنصر الأسلم. والمشهور أن في كل صفحة من العنق عرقًا يقال له وريد.
ففي الكشاف الوريد أن عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان بحسب المشاهدة من الرأس إليه فالوريد فعيل بمعنى فاعل، وقيل: هو بمعنى مفعول لأن الروح الحيواني يرده ويشير إلى هذا قول الراغب: الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح، وقال في الآية: أي نحن أقرب إليه من روحه، وحكى ذلك عن بعضهم.